بسم الله الرحمن الرحيم
الحضور الكرام،
أود بداية أن أتقدم بالشكر لفخامة الأخ الرئيس رجب طيب أردوغان على
دعوته إلى هذا المؤتمر الطارئ، وللجمهورية التركية، حكومةً وشعبًا، على
المواقف المشرفة المؤيدة لقضية فلسطين وقضايا الشعوب العادلة عمومًا.
في يوم الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة مروعة بحق متظاهرين فلسطينيين سلميين في غزة.
لقد دخلت قضية فلسطين التاريخ بوصفها قضية شعبٍ سُلبَ وطنُه، ولاجئين توزع شتاتُهم في مختلف أرجاء الأرض ولجأت غالبيتهم إلى البلاد العربية وبعض المدن الفلسطيني، ومنها قطاع غزة.
وقبل مرور عقدين على النكبة وقع القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد حرب عام 1967، حاله في ذلك كحال الضفة الغربية والقدس. وبعد نضال مديدٍ وغزير التضحيات، وانتفاضتين شهيرتين ضد الاحتلال، انسحبت إسرائيل من طرف واحد من قطاع غزة وحده، ولكنها فرضت عليه حصارًا خانقًا ما زال مستمرا حتى هذا اليوم، أي أنها واصلت الاحتلال بوسائل أخرى.
ومؤخرا نظّم أهالي القطاع، من أبناء وأحفاد هؤلاء اللاجئين، مسيرات سلمية شجاعة للتذكير بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذي أقرته الأمم المتحدة في قرارها رقم 194 في 11 ديسمبر 1948. وللتذكير أقول: كان التزام إسرائيل بتنفيذ ذلك القرار وتنفيذ قرار التقسيم من العام 1947 شرطا لقبولها عضوا في الأمم المتحدة.
وفي مسيرة يوم 15 مايو الجاري، وهو يوم ذكرى قيام إسرائيل الذي يعتبره الفلسطينيون والعرب يوم نكبة فلسطين، وقعت المجزرة، وشاهدها العالم بالبث المباشر. لقد حصد الجنود الإسرائيليون المتظاهرين بنوع من الرصاص المتفجر في وضح النهار. ولا يدعي مرتكبو فعل القتل أنفسهم أن الفلسطينيين كانوا مسلحين. فمنذ أسابيع يخرج الفلسطينيون في قطاع غزة المحاصر في مسيرات سلمية تذكيرًا بحق العودة، ورفضًا لتصفية قضية فلسطين دون حل عادل.
ومع أن حق العودة هو بحد ذاته عنوانٌ لمظاهرات مشروعة، إلا أنه من الصعب فهم هذه الصرخة الفلسطينية عند الحدود مع بلادهم التي هُجِّروا منها دون خلفية الحصار الخانق وغير الإنساني الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أن أخذ حق الاقتراع بجدية في انتخابات عام 2006.
لقد تحوَّل القطاع بفعل الحصار إلى معسكر اعتقال كبير لملايين البشر المحرومين من أبسط حقوقهم بالسفر والتعليم والعمل والحصول على العلاج الطبي.
حين يحملُ أبناؤهم السلاح يُسمون إرهابيين، وحين يخرجون بمظاهرات سلمية يُسمون متطرفين، ويُحصَدون بالرصاص الحي.
نحن نقدر الدول التي أدانت المجزرة بوضوح، ونحترم أيضا كلَّ من عبر عن حزن وغضب من هذا الفعل الشائن وجميع من طالبوا بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة؛ ولكن الشعب الفلسطيني وشعوبنا عموما ترى أن هذا ليس كافيا، فالحقائق معروفة، وإسرائيل نفسها لا تنكر إطلاق النار على المتظاهرين.
إن المطلوب هو اتخاذ موقفٍ تتبعه خطوات عملية.
من منا لا يعرف ما يتعرض له قطاع غزة من حصار معلن وعقوبات جماعية ضد السكان؟! ونعرف أيضا أن تقارير لجان التحقيق قد تتكدس على الرفوف، كما حصل مرارا في الماضي، إذا لم تتوفر إرادة دولية لاتخاذ خطوات حقيقية وفعالة.
هل يُعقَل أن يُعقَد احتفال بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، التي تُعتبَر السيادةُ عليها إحدى أهم قضايا الحل الدائم التي يفترض أن التفاوض يجري بشأنها بوساطةٍ أميركية، في الوقت الذي تُسفك فيه الدماءُ في قطاع غزة؟ أي رسالة هذه التي توجه إلى الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وجميع القوى المحبة للسلام في العالم؟
يحتاج الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مواقف صادقة وإرادة سياسية لاتخاذ خطوات ذات معنى لإزالة الاحتلال، فهذه هي المقدمة لأي حل عادل. ومن دون حل عادل لقضية فلسطين وإنصاف شعبها لا يمكن وقف هذا النزيف المتواصل منذ سبعين عاما.
يجب وقف الحصار المفروض على القطاع بقرار سياسي، ويجب فرض الحل العادل للقضية الفلسطينية بوصفها آخر قضية استعمارية ما زالت تشغل العالم.
ثمة إجماع دولي عابر للخلافات السياسية والأيديولوجية على ضرورة وضع حد للظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، وأن الطريق إلى ذلك يمر عبر تسوية تاريخية تتمثل بإقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلت عام 1967، أي على 22% من أرض فلسطين التاريخية، وعاصمتها القدس الشريف. وثمة إجماع دولي أن السياسات الإسرائيلية التوسعية والمتمثلة ببناء المستوطنات وتهويد القدس غير شرعية وتشكل عائقا أمام تحقيق هذه التسوية التاريخية.
ولكن المجتمع الدولي يقف عاجزا أمام الرفض الإسرائيلي لهذا الإجماع، ولا يتخّذُ أية خطوات في مواجهة هذا التعنت على الرغم من خطره على الأمن الإقليمي والدولي.
ويجب أن تبقى هذه القضية موضع إجماع في منظمتنا، ولا يجوز بأي حال أن نخضعها لخلافات بين دولنا.
ما زالت قضية فلسطين جرحا مفتوحا، في وعي الشعوب وذاكرتها، وإن تجاهل بعض الأنظمة لذلك لا يغّير هذه الحقيقة. وقد أصبحت هذه القضية رمزا للمظلومين في كل مكان، والمجزرة الأخيرة التي ارتكبت بحق المتظاهرين السلميين تعمّق الشعورَ بالظلم وبعجز الشرعية الدولية. ولكنها من ناحية أخرى تثبت أن شعبًا ما زال صابرا يكافح ويقدم التضحيات منذ سبعين عاما هو شعب حي لا يمكن تصفية قضيته من دون تحقيق العدالة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.